الاثنين، 3 سبتمبر 2012

التحرش الجنسي.. الردع أولاً 4 - الوطن - 3 سبتمبر 2012

أضواؤنا فى المقالة السابقة كانت مسلطة بكل تركيزها على أجهزة الإعلام؛ وتحديداً كنا نشير بأصابع الاتهام إلى مسئوليتها المباشرة عن كثيرٍ من صور التردى الأخلاقى والانحراف السلوكى.. والتحرش الجنسى على رأسها.
فى الظروف الطبيعية تُلح الطبيعة البشرية على صاحبها أن يبرر لنفسه أى جُرم تقترفه يداه.. مسألة شعورية أحياناًً ولا شعورية فى أغلب الوقت؛ قديمة بقدم الإنسان نفسه (فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله)؛ وسواء فى ذلك أكان المبرر قوياً أم واهياً؛ وهنا تكمن خطورة المشاهد الجنسية ومشاهد التحرش التى تعج بها كثير من الأفلام والمسلسلات، إذ إنها المسئولة بشكل مباشر عن تبرير المتحرش لنفسه ارتكاب هذا الجرم حينما تصور له المرأة سلعةً رخيصةً لن تردَّ يدَ لامسٍ أو متعرضٍ لها بسوء؛ وهذا هو ما استنكره «ارنست فيشر» Ernst Fischer فى كتابه «ضرورة الفن» وحمل فيه بشدة على الفن الهابط غير السوى الذى يجعل المرأة مجرد أداة لإثارة الشهوات، وإشباع الرغبات ويعطى عنها صورةً نمطية فى غاية السوء تجعلها مجرد سلعةٍ تُستهلك.
واستوقفنى كثيراً أثناء متابعتى لحلقة برنامج «بتوقيت القاهرة» التى خصصها المرازى للحديث عن التحرش تفسير د. عزة كريم، مدير مركز حقوق المرأة، للنسبة المرتفعة من رجالٍ (62٪) اعترفوا بالتحرش الجنسى مرة على الأقل أسبوعياً، حيث أرجعت ذلك لمشاهدتهم الأفلام الجنسية ومشاهد الإغراء فى المسلسلات الدرامية.
و نفس الأمر كان الدكتـور أحمد عكاشة أستاذ الطب النفسى قد أكَّد عليه من قبل حينما اتهمَّ صراحةً العرى والمشاهد الجنسية التى تحاصر الشباب على شاشات الفضائيات بأنها الدافع الرئيسى وراء هذا الانحراف السلوكى.
أمَّا المواقع الإباحية الصريحة فأدهى وأمَرّ، تنخر كالسوس بلا هوادة فى بنيان المجتمع المصرى، ويرى الكثيرون أنها سبب رئيسى فى النظرة الحيوانية التى ينظر بها المتحرش إلى النساء.. سائر النساء.
د. جوديث ريزمان Judith Reisman الباحثة الأمريكية فى شهادتها الشهيرة عن أخطار المواقع الإباحية على المجتمع أمام الكونجرس الأمريكى، نوفمبر 2004، استخدمت تعبير (non-human animals) وتعنى «حيوانات غير آدمية» فى وصفها للصورة الذهنية التى تطبعها المواقع الإباحية عن النساء فى أذهان الكثيرين.
استباحة الأعراض هى تسلسل طبيعى لفكرة الإباحية، فمن ضغط على زناد السعار الجنسى لا يسأل بعدها فى صدر مَن ستستقر الرصاصة القاتلة.. «وللحديث تتمة».

التحرش الجنسي.. الردع أولاً 3 - الوطن - 30 أغسطس 2012

سُررت كثيراً بتفاعل أكثر من مؤسسة وشركة إيجابياً مع ما طرحناه فى المرّة السابقة من دور اجتماعى (social responsibility) للمؤسسات فى مواجهة ظاهرة التحرش، كلهم يريد أن يرعى حملة توعية مجتمعية ضخمة لإعادة ضخ «النخوة» فى شرايين الجسد المصرى.. وإنى لمنتظر تفاعلاً أكبر بالأفكار والآراء لتخرج حملة كهذه على أفضل هيئةٍ ممكنةٍ قبل عيد الأضحى على أقصى تقدير.. وليتنى أستطيع أن أخالف قواعد النشر كى أضع لك عزيزى القارئ (المتفاعل) ألف خطٍ تحت جملة أننا لم نزل بعد أمام الشق الأول من تعاملنا مع هذه الظاهرة، لم نزل بعد نتحدث عن إيقاف الجريمة أولاً، حتى لا يتعجّل أحدٌ الحكم على سلسلةٍ لم تنتهِ بعد.
إعلامٌ شريفٌ يوجِّه، كان أحد أركان معادلتنا لإيقاف النزيف، والحق أن صورةً قاتمةً كانت قد استقرت فى مخيلتى قبل أن أشرع فى كتابة المقال عن حجم الدور السلبى الذى يؤديه الجهاز الإعلامى بكل صوره حيال ترسيخ هذه الظاهرة المؤسفة، وكان أغلب ما يدور فى ذهنى ويتعلق بأجهزة الإعلام منصباً على تعمدها إثارةً فجَّة للغريزة الجنسية عند شبابٍ أقعدته الحاجة والعوز وأشياء أخرى عن إشباع هذه الغريزة، ومن ثمّ تأخذ نصيبها من تحريضٍ يظل غير مباشرٍ.. لكنى أعترف أنى بُهت بتأكيد كثيرٍ من القراء أن الأمر تجاوز التحريض غير المباشر بمراحل، ليصل إلى مشاهد تحرش بدرجاتٍ مختلفة يقوى بتأديتها شبان ممثلون يتخذهم أبناء الخامسة عشرة وما حولها قدوةً ونموذجاً يحتذى! نعم والله هكذا سمعت وهكذا أكّد لى من أثق بصدقهم ممّن يحاول إصلاحاً فى هذا الوسط!
وحتى لا ينصرف الذهن إلى غير ما أريد، أنا لا أتحدث هنا عمّن حاول أن يعالج الظاهرة بطريقةٍ إصلاحية تبرز حجم المأساة كمثل القائمين على فيلم «٦٧٨»، إنما أتحدث عن أفلام يشاهدها فتيان أغرار تشرح لهم بالصوت والصورة تنفيذ الجريمة بكل حذافيرها! نظرات وحركات وألفاظ، كلها يندرج بلا تفكير تحت بند التحرش يقدمها نجوم شباك شباب وآخرون بلغوا من الكبر عتياً بغير رقيب أو حسيب! والأدهى من ذلك أن هذه المشاهد تدور فى إطار من خفة الظل والاستظراف ينطبع به فى ذهن المتلقى غير المميز أن التحرش جزء من نمط الحياة الطبيعية أو هو مكون مهم من مكونات شخصية الشاب المرح المتفتح! والأكثر مرارة أن تُصور المرأة فى كل هذه المشاهد ساكتة غاضة للطرف عما تتعرض له؛ فيخيل للمتحرش مريض النفس بعد ذلك أنها راضية متلذذة بهذا الهوان، فينزل إلى الشارع متصوراً كل النساء كلأً مستباحاً.. وللحديث تتمة.

لا داعي لإيران سيادة الرئيس- الأهرام - 28 أغسطس 2012


في هذه المرحلة الدقيقة التي نعيد فيها ترتيب البيت من الداخل‏;‏ نحتاج إلي رؤية محددة لإعادة هندسة أولويات وتوجهات السياسة الخارجية المصرية‏.‏
رؤية ننطلق منها لنرسم لمصر مكانا محوريا يؤهلها للعب دور قيادي منشود; ومن ثم تصبح زيارات الرئيس الخارجية تنفيذا دبلوماسيا لخط استراتيجي عام وإطار سياسي شامل يعكس أولويات دوائر صنع واتخاذ القرار في مصر بعد الثورة.
علي سبيل المثال; حينما يمم الرئيس وجهه شطر المملكة السعودية في أولي زياراته الخارجية ظننا أنه أعطي دلالات قوية للشرق والغرب لملامح السياسة المصرية الخارجية وأولوياتها بعد الثورة; ومن لم ير فيها ما يدعوه لاستشفاف هذه الملامح أتته كلمات الرئيس في معرض زيارته واضحة لا تحتمل تأويلا: إذا كانت السعودية لمشروع أهل السنة والجماعة راعية فإن مصر لهذا المشروع حامية; وأتت من بعدها زيارته الإفريقية لتكمل رؤية صانع القرار للدوائر الإستراتيجية المحتملة للسياسة المصرية الخارجية.. لكن الرؤية اختلت كثيرا بالإصرار علي زيارة إيران بحجم تمثيل دبلوماسي رفيع المستوي يترأسه زعيم مصر بعد الثورة. إصرار يحمل علامة استفهام مؤرقة عن أهمية الزيارة وتقديرنا للدولة المضيفة.
فلننح جانبا فكرة حتمية الذهاب من الناحية البروتوكولية; إذ يكفي في ذلك وزير الخارجية أو حتي من هو أقل منه منصبا للقيام بهذا الدور; التوقيت غير مناسب بالمرة لعدة اعتبارات يأتي في مقدمتها أن إيران هي الأكثر شراسة واستماتة في الدفاع عن نظام( بشار) فاقد الشرعية; تثبيتا للقوس الفارسي الخصيب آن تنفلت منه أحد أهم حباته; ولولاها لسقط منذ زمن بعيد; وإيران تسعي لاستغلال فرصة قمة عدم الانحياز لكسر العزلة السياسية المفروضة عليه; وهي أحد أهم أوراق الضغط المتوافرة لإسقاط النظام السوري فكيف نساهم في مداواة جراحها ؟
إيران التي دأبت علي دس أنفها في شئون دول كثيرة لن تكون سوريا آخرهم. تصدير المد الشيعي الذي يجري علي قدم وساق في طول إفريقيا وعرضها وفي القلب منها مصر أكبر دول العالم الإسلامي هواية عند النظام الإيراني; العبث بأمن الخليج العربي ورقة ابتزاز يلوح بها من حين لآخر; العراق الذي مثل صمام أمان وبوابة شرقية للأمة العربية والإسلامية أصبح كلأ مستباحا للاستخبارات الإيرانية تعيث فيه فسادا; الدعم اللوجيستي والعسكري للحوثيين في اليمن; إثارة القلاقل في البحرين والتصريح الدائم المستفز أنها إحدي ولايات الدولة الفارسية; التحرش الدائم بالإمارات العربية واحتلال جزء من أراضيه; وأخيرا تصدير أزمة النظام السوري فاقد الشرعية إلي لبنان لتندلع مواجهات أبناء الوطن الواحد من جديد.
الذين يدافعون عن الزيارة باعتبارها ردا علي التهديدات الإسرائيلية بضرب طهران حجتهم داحضة; لأن الحرب الوحيدة التي يمكن أن تنشب بين إيران والصهاينة لا تتجاوز بأي حال معارك إعلامية كلامية تتجدد فصولها المملة من وقت لآخر وترتفع سخونتها حسب رغبة كل فريق لتحقيق مكاسب يرجوها, إما عن طريق ابتزاز شعبه أو لكسب مساحة أكبر من التأثير والنفوذ; وغاية ما هنالك أن تحرك إيران وقتما يحلو لها( حزب الله) مخلب القط الذي تحتفظ به في الجنوب اللبناني; وأبرز الأدلة علي هذا التحليل تصريحات بيريز الأخيرة أن إسرائيل لا تستطيع وحدها توجيه ضربة عسكرية لإيران أشبه بكابح الجماح( الفرامل) التي تعيد الفريقين إلي مضمار السباق من جديد.
أسخف من ذلك توهم إمكانية الضغط علي الولايات المتحدة لتحقيق مكاسب بزيارة كهذه; ولو أردت عودة إلي الوراء لتدرس بعمق أكثر طبيعة العلاقات الإستراتيجية الأمريكية الإيرانية-وطالما أن الولايات المتحدة أحد طرفي العلاقة فإن ذلك يعني إسرائيل بصورة ضمنية- فلا زالت ذاكرة التاريخ تحفظ في سجلاتها السوداء كلمات علي أبطحي مساعد الرئيس الإيراني الأسبق محمد خاتمي: لولا مساعدتنا لها-لأمريكا يقصد- ما دخلت أفغانستان ولا العراق. وهو نفس الأمر الذي أكده أيضا الباحث الإيراني محمد غلام رضا عقب فوز أوباما بانتخابات الرئاسة الأمريكية; بل أماط اللثام عن ما هو أكثر من ذلك بقوله: إن الحوار بين إيران وأمريكا لم ينقطع, حيث أن طهران كانت في حوار دائم مع واشنطن في بغداد, كما أنها استلمت رسائل من أمريكا عبر السفارة السويسرية. وعلامات غيرها كثيرة علي( استراتيجية) العلاقة الأمريكية الإيرانية.
ربما أراد الرئيس الضغط علي الخليج العربي كله, باستثناء قطر التي تشير التوقعات إلي حضورها, عن طريق لعبة التوازنات واستخدام سياسة العصا والجزرة; لأن التلويح ولو من طرف خفي إلي التقارب المصري الإيراني سيمثل فزاعة حقيقية لمن لايزال يشكك في قدرة مصر تحت قيادة رئيس ينتمي إلي التيار الإسلامي; وسيدفع كل من تلكأ في مساعدة البلاد أن تخرج من أزمتها الإقتصادية. لكن هذا الإفتراض لو صح سيكلفنا الكثير; في وقت نحتاج معه لإستخدام أساليب الإحتواء والطمأنة أكثر من حاجتنا لإستخدام التهديد.
سيادة الرئيس.. لا نريد مد حبال قوية للتواصل مع إيران في الوقت الذي تكفينا فيه شعرة معاوية; وشتان بين الحبل السميك وبين الشعرة المهترئة.

التحرش الجنسي.. الردع أولاً 2 - الوطن - 27 أغسطس 2012

ذكرنا أن إيقاف الجريمة من باب درء المفاسد ينبغى أن يكون شعلنا الشاغل فى المقام الأول ونحن نعالج قضية مجتمعية بالغة الخطورة كالتحرش الجنسى، وكانت أغلب اقتراحاتكم لإيقاف الجريمة تدور حول: داعية نابه يوجه، وتواجد أمنى يُكثف، ويقظة شعبية تتقد؛ وقانون صارم يردع، وإعلام شريف يوعى.. والداعية النابه كان أول أركان الحل التى آوينا إليها.
أغلب المتحرشين إما مراهق أو لم يبلغ الحلم بعد؛ قصرت بيوتهم عن تنشئتهم على خوف الله واتقاء سخطه، يحتاجون لمن يعلمهم قول النبى صلى الله عليه وسلم «لأن يطعن فى رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له»، ليستشعروا فداحة الجرم الذى يعتبره أكثرهم اكتمال رجولة، يحتاجون لمن يشعرهم أن الله سبحانه حليم يصبر على الإساءة لكنه ليس بغافلٍ عما يعمل الظالمون.
والدعوة إلى ترك رذيلة التحرش الجنسى هى التى ستثمر يقظة شعبية متقدة، هى التى ستنفخ روح النخوة فى أوساط المجتمع المصرى، ليستشعر (أولاد البلد) من جديد أى عارٍ يغرقون فيه حتى الآذان حين تُنتهك حرمة امرأةٍ أمام أعينهم دون أن يكفوا المتحرش بها عن فعلته الشنعاء؛ وتأمل معى ماذا لو انتشر بين هؤلاء الذين يرون بأعينهم وقائع تحرشٍ سافرة ثم لا يحركون ساكناً أن الله سبحانه يغار، وغيرة الله أن تُنتهك محارمه؟ ماذا لو أدركوا أنهم مشاركون فى هذه الجريمة النكراء بسكوتهم عن استباحة أعراض النساء؟
أليس منكم رجال راشدون يلقون القبض على هؤلاء كما يُفعل مع أى لصٍّ أثيم ويقتادونهم إلى أقسام الشرطة؟ بالمناسبة، تذكرت خبراً قرأته فى بداية عام ٢٠١٠ أن د. أحمد درويش وزير التنمية الإدارية وقتئذٍ رأى أحد مجندى الشرطة يتحرش بفتاةٍ فى وضح النهار، فما كان منه إلا أن اصطحبه معه حتى سلمه لقسم الشرطة؛ بالتأكيد وضعه يختلف عن آحاد الناس، لكنه لم يتردد فى أداء واجبٍ ما أملاه عليه إلا فطرته ودينه؛ وحين يأتى الدور فى تحليلنا على التواجد الأمنى؛ سنوضح العلاقة المطلوبة بين المجتمع ورجال الشرطة لكفِّ هذه الظاهرة، كما سنوضح أن التعامل الشرطى نفسه مع المتحرش لا بد أن يتغير بالكلية ليثمر الردع المطلوب؛ لا ليجعله أكثر جرأة على انتهاك حرمات المجتمع.
الدعوة إلى ترك الرذائل والمستقبحات ميزت هذه الأمة بخيريةٍ استمدتها من تشربها لمعانى التناصح والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، فى الوقت الذى هلكت فيه مجتمعاتٌ أخرى (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِى إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَكَانُواْ يَعْتَدُونَ كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن منكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ)؛ لذلك أرى أن هذا أمرٌ لا يقتصر على أحدٍ بعينه، فالكل يدخل تحت قول النبى صلى الله عليه وسلم: «بلغوا عنى ولو آية»؛ بل يدخل فيه كل عاقلٍ قادرٍ على نشر الوعى فى ربوع المجتمع، تدخل فيه الشركات والمؤسسات الوطنية بنصيب من مسئوليتها الاجتماعية «social responsibility» فى صورة حملات توعيةٍ فى الشوارع والمنتديات غنيها وفقيرها، بالمطبوعات وبالملصقات، بالندوات والمؤتمرات.

التحرش الجنسي.. الردع اولاً 1 - الوطن - 23 أغسطس 2012

دائماً ما كنت أستشعر اشمئزازاً لا يُوصفُ كلما وقعت عيناى على ذكر «التحرش الجنسى»، وكنت على يقينٍ تام أن «المتحرش» شخصٌ قد انتكست فطرته إلى حدٍ يستوجب إعادة تأهيله «إنسانياً» قبل أن يستوعبه المجتمع فى صفوفه مرةً أخرى.. غير أن هذا الاشمئزاز انقلب ذهولاً عاتياً لمّا تعدت هذه الجريمة حاجز الانحطاط السلوكى الفردى لأسمع عن «التحرش الجنسى الجماعى»، ثم انقلب الذهول بدوره فأصبح مرارةً لا حد لها حينما رأيت صور بعض «المتحرشين» التى نشرتها الصحف تكشف عن هوية صِبية بعضهم مراهق وبعضهم لم يبلغ الحلم بعد.. ثم تحولت المرارة غضباً عارماً لمّا رأيت «مجتمعاً» إما غافلاً لا يُحرك ساكناً، وإما عاجزاً لا يردع مجرماً، وكلاهما يكفى لوصف خللٍ واضحٍ فى منظومة القيم وشرخٍ ظاهرٍ فى بنيان الهوية المصرية، فكيف بمن تلاشت من قلبه آخر أمارات النخوة والرجولة فيشجع المتحرش على فعلته بقوله «يستاهلوا»؟!
أتفهم تماماً أن الحل لا يمكن أن يقدم فى مقالٍ أو حتى سلسلة من المقالات؛ إذ إن حجم المشكلة أكبر من أن يدلى فيه عقلٌ واحدٌ بدلوه، لكنه الجهد المتكامل للدعاة والعلماء والتربويين والكتاب والإعلاميين والقانونيين الذى سيصل بنا حتماً إلى بر الأمان، بل وأنا أيضاً شديد الاقتناع أن التحليل العميق لدوافع هذا السلوك الإجرامى سيساعدنا بشكلٍ تلقائيٍ على ابتكار الحلول قصيرة وبعيدة المدى على السواء.. لكن الواجب الشرعى والمنطقى يقتضى أن نسعى فوراً للأخذ على يد المعتدى لوقف «المفسدة» ابتداءً؛ لأنه وبغض النظر عن الحالة النفسية التى سيطرت على المتحرش وزينت له قبح فعله، أو العوامل الاقتصادية والاجتماعية التى سنعرض لها بالتفصيل، فإننا أمام جريمة مكتملة الأركان تتكرر بشكلٍ يومى فى شوارعنا ومواصلاتنا العامة وجامعاتنا، لن يفلح فى مواجهتها قلم مرتعش أو أنفة من الاعتراف بالتقصير أو دورانٌ فى فلك تحليلٍ سطحى؛ فوجهة نظرى أن يدور الحل على محور تحقيق نظرية الردع أولاً من باب رفع الضرر الذى أُمرنا به فى حديث «لا ضرر ولا ضرار».
وبالمناسبة فإن أغلب ما تخطه يمينى فى هذه المقالات ليس إلا نسجاً لمجموعةٍ من الحلول وردتنى عن طريق اقتراحات زوار موقعى على الـtwitter فى تجربةٍ استفدت منها كثيراً، وشركائى فيها هم قراء أخلصوا وتفاعلوا فأبدعوا.. ودارت أغلب اقتراحاتهم لإيقاف الجريمة أولاً حول: داعية نابه يوجه، ووجود أمنى يُكثف، ويقظة شعبية تتقد، وقانون صارم يردع، وإعلام شريف يوعى.. ببساطة كلكم راعٍ وكلكم مسئولٌ عن رعيته.
أمّا الداعية النابه فهو ذلك الذى يتلقف الشباب من على النواصى وفى المنتديات يبصرهم أن الله سبحانه قد حرم الأعراض كما حرم الدماء والأموال، وخطب بذلك الرسول، صلى الله عليه وسلم، فى آخر حياته: «فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا فى شهركم هذا فى بلدكم هذا، فليبلغ الشاهد الغائب». يدفعهم إلى التخوف من وقوع الجرم نفسه مع أقرب الناس لهم كما فعل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مع الشاب الذى طلب منه الإذن بالزنا: «أترضاه لأمك؟ أترضاه لأختك؟».. الحديث، فلعل ذلك أن يحدث الأثر المطلوب فى نفس شابٍ تحلل من كل قيود الحياء بتخويفه من قانون «افعل ما شئت كما تدين تدان».. وللحديث تتمة.

عمر يواجه طلب الاستجواب! - اليوم السابع - 20 أغسطس 2012

ذكرنا أن عمر بن الخطاب قسًَّم مجلسه الاستشارى الطارئ لبحث أزمة طاعون عمواس إلى ثلاث فرق، يستشير كلاً على حدة ليتحاشى "تأثير هالة" كل فريق على الآخر، حتى انتهى به المطاف إلى استشارة الفريق الذى حوى أهل الخبرة والتجربة الطويلة "مشايخ قريش" فلم يختلف عليه منهم اثنان.. كانت المفاجأة أن هذا المعسكر تحديدا قد حسم أمره بضرورة رجوع قيادات الصف الأول كلها إلى المدينة، والتراجع عن القرار الأول بزيارة الشام، فقالوا: "نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على هذا الوباء".

وبذلك لم يعد أمام عمر سوى هذا الخيار تطبيقاً لقواعد الشورى التى تشترط الأغلبية فى إصدار القرار، وهو ما تحقق بجمع من مَالَ إلى هذا القرار من معسكرى المهاجرين الأوائل ثم الأنصار، وأخيرا معسكر مشايخ قريش، وفى ذلك يقول الإمام النووى معلقاً: "وكان رجوع عمر رضى الله عنه لرجحان طرف الرجوع لكثرة القائلين به، وأنه أحوط، ولم يكن مجرد تقليدا لمسلمة الفتح، لأن بعض المهاجرين الأولين وبعض الأنصار أشاروا بالرجوع، وبعضهم بالقدوم عليه، وانضم إلى المشيرين بالرجوع رأى مشيخة قريش، فكثر القائلون به، مع ما لهم من السن والخبرة وكثرة التجارب وسداد الرأى".

فلمَّا أعلن فى الناس قراره وهمَّ بالرجوع، فوجئ عمر وفوجئ الناس بأن رئيس أركان الجيش وأحد أبرز قيادات الدولة فى ذلك الوقت أبوعبيدة بن الجراح يطلب "استجواباً" علنياً لرئيس البلاد إذ يقول: "أفرارا من قدر الله ؟".. "الاستجواب" كأداة من أدوات الرقابة على السلطة التنفيذية مثَّل ركناً من أركان النظام السياسى فى الإسلام، لكنه فى هذه الحالة لم يكن له ما يبرره حقيقةً، لأن عمر أدار جلسات استماع مجلس المستشارين بأقصى درجات الشفافية واطلع الجميع على نتائجها، بل إنه حتى لم يستخدم حقه فى إبداء رأيه الشخصى فضلاً عن رأيه المرجح، واعتمد فقط على أصوات الأغلبية وهو ما عبَّر عنه عمر بمرارةٍ قائلا: "لو أن َّغيرك قالها يا أبا عبيدة"، يلوم عليه ذلك، لما بينهما أولاً من شدة انسجامٍ وتفاهمٍ يصعب معه أن لا يعرف أبوعبيدة لمَّ اتخذ عمر هذا القرار، وثانياً لاطلاع أبى عبيدة على عملية الشورى برمتها، وثالثاً لأن هذا اتهامٌ صريح "استجواب" لم يسبقه "طلب إحاطة" يترك لعمر فرصة سوق مسوغات هذا القرار تحديداً.. غير أن القائد الأعلى استجاب لطلب رئيس الأركان، فطالما أنه اتخذ قراراً، فعليه أن يقدم مسوغات هذا القرار لعامة شعبه ويتحمل ذلك نيابةً عن مستشاريه وقادته باعتباره رأس السلطة التنفيذية، فقال: "نعم، نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كان لك إبل فهبطت واديا له عدوتان، إحداهما مخصبة والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله ؟".. لابد أن يدفع عن نفسه تهمة الجبن، وأن يبرهن على قراره بالأسلوب العلمى المنطقى المقنع، لاحظ أن عمر هنا يتحدث بوصفه قائداً سياسياً يصيب ويخطئ، فنزع عن نفسه كل أحاديث النبى صلى الله عليه وسلم التى زكَّته ورفعت قدره على من سواه، كمثل حديث: "إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه" أو حديث: "لو كان بعدى نبى لكان عمر بن الخطاب" أو غيرهما، فلم يستخدم أياً من ذلك سلطاناً لنهر من استجوبه.. مثال نهمس به فى أذن من يملأ الدنيا ضجيجاً عن مخاوف الدولة الدينية ونقول له لم يعرفها الإسلام يوماً، وأجدنى مدفوعاً أيضاً أن أهمس به فى أذن من يغالى فى حب شخص ينتمى إلى التيار الإسلامى ولا يقبل أن ينتقد محبوبه أحد!

"القياس" كان هو الأسلوب المنطقى التحليلى الذى استخدمه الخليفة الراشد لتبرير موقفه، فلجأ إلى مثالٍ يومى ٍاستقاه من البيئة المحيطة، ليدلل على أن التفكير المنطقى السليم الذى يقود راعى الإبل إلى ترك الأرض المقفرة الجدباء والتوجه بإبله إلى الأرض الخصبة كنوعٍ من الأخذ بأسباب طلب الرزق للبهيمة لا يتم إلا بقدر الله لأنه سبحانه خلق كل شىء بقدر، فكذلك الأمر فى قضيتهم تلك.. وللحديث تتمة.

رمضان ومعاني الإحسان 7 .. وتعليق على قرارات الرئيس - الوطن - 16 أغسطس 2012

تسرب رمضان من بين أيدينا كعهده فى كل عام دون سابق إنذار وكأنى به يؤكد وصف الله سبحانه «أياماً معدودات»..كل عام وأنتم جميعاً بخير وإلى الله أقرب وعلى الإحسان أحرص. أردنا منذ بداية هذه السلسلة أن يصبح الإحسان وصفاً ملازماً للإنسان فى حياته بعد رمضان؛ وصورنا الشهر الكريم مدرسة تفتح أبوابها مجاناً لكل من أراد تدريب نفسه على تحرى الإتقان؛ وتعود مخالقة الناس بخلق حسن؛ وسعى إلى أن يعبد الله كأنه يراه؛ ثلاثية المعانى التى عشنا فى ظلها على مدار الشهر.. لذلك كانت الإشارة النهائية إلى المفهوم الشامل لعلاقة الإنسان بربه سبحانه التى تحول العادة الدنيوية إلى عبادة يثاب عليها صاحبها إذا ما تحرى النية الصادقة؛ فمن وفّى نفسه حظها من المباحات بكل أنواعها بنية تقويتها على أعمال الطاعات كان مأجوراً على ذلك، كما قال معاذ بن جبل: «إنى أحتسب نومتى كما أحتسب قومتى»؛ يطلب الثواب على فترة نومه طالما أنه ما أراد منها سوى الاستعداد ليوم جديد يتحرى فيه طاعة ربه سبحانه؛ حتى علاقة الرجل بزوجته المبنية أصلاً على تعلق طبيعى؛ يقول فيها النبى صلى الله عليه وسلم: «فى بضع أحدكم -فى إتيانه لشهوته- صدقة؛ قالوا: يا رسول الله، أيأتى أحدنا أهله فيكون له فيه أجر؟ قال: أرأيت إن وضعها فى الحرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها فى الحلال كان له فيها أجر»، وذلك هو التطبيق العملى لحديث «وإنما لكل امرئ ما نوى».
الشريعة الإسلامية لم تسعَ إلى صياغة شخصية «رمضانية» تبلغ ذروة عبادتها فى هذا الشهر وحده؛ ثم تعود إلى سابق عهدها إذا ما انقضت أيامه؛ بل سعت إلى أن تكون هذه الأيام المعدودات بمثابة دورة تدريبية مكثفة تخرج إلى الدنيا أشخاصاً يحرصون على التحلى بالتقوى فى كل صغيرة وكبيرة من تفاصيل حياتهم.
قبل الختام:
لا أريد فى اللحظة الراهنة أن أضيف كثيراً إلى آراء كل من عكفوا على تناول قرارات الرئيس (الثورية) بالتحليل؛ لكنى كنت قد نوهت من قبل فى مقال «كان الاختبار حتمياً» إلى: أنه فى صراعات الأقوياء؛ إذا ما لم يستطع فريق بعينه أن يحسم معركة القيادة لصالحه من الجولة الأولى؛ فإنه سيحرص على القبول بفكرة تحديد نطاق من النفوذ لا يتعداه هو أو خصمه؛ فلا يتورط فى نزاع يستزف طاقته مع من يماثله أو حتى يقترب منه فى القوة طالما كانت مناطق النفوذ غير مهددة؛ ولما كان تحديد نطاق النفوذ هو ترجمة ضمنية لقوة كل فريق؛ فسيسبقه ولا بد اختبار يقيس هذه القوة سواء أتى اتفاقاً أو عمد أحد الطرفين إلى أخذ زمام المبادرة وقرر القيام بإجراء يختبر به قوة خصمه.. وتستمر اختبارات القوة لتحديد نطاق النفوذ حتى تأتى لحظة حسم تسفر عن انتصار قوى واحد.. وفى حالتنا تلك أتت لحظة الحسم بأسرع مما يتوقع أى أحد.
لم أكترث بمحاولات الأمريكيين الخرقاء إثبات معرفتهم بهذه القرارات قبل وقوعها؛ فهذا دأب الإدارة الأمريكية الذى لن تمل من تكراره؛ إنما الذى أثار حفيظتى حقيقة هو تصديق البعض سيطرة أمريكية متوهمة على مجريات الأمور فى كل بقاع الأرض.. أفيقوا يرحمكم الله أنتم فى زمن الربيع العربى!