الاثنين، 3 سبتمبر 2012

مجلس عمر الاستشاري لإدارة الأزمة - اليوم السابع - 11 أغسطس 2012

لما كان عمر خبيراً لا يشق له غبار فى تقييم الرجال ومعرفة قدراتهم وفضلهم وتباين نفسياتهم، فقد عمد إلى تقسيم مجلسه هذه المرة إلى ثلاثة أقسامٍ مختلفة.. المهاجرون الأولون، ثم الأنصار، وأخيراً أشياخ قريش من مسلمة الفتح، يعقد مع كل فريقٍ منهم اجتماعاً مستقلاً يستعرض فيه أزمة طاعون الشام «طاعون عمواس» التى نزلت بساحة الدولة الإسلامية وينصت إلى مناقشاتهم وما انتهوا إليه من رأى، ثم يقوم إلى الاجتماع الذى يليه.. وما حمله على ذلك إلا أنه أراد لكل فريقٍ منهم أن يحتفظ بذات خصائصه النفسية المهيمنة على تفكيره دون تأثرٍ برؤية فريقٍ آخر، فقد يحمل الإحراج طائفة أن تتنازل عن رأيها أو تتهيب من الإفصاح عنه إذا ما خالف رأى من يعرفون سبقه أو مكانته... إذن فقد تحاشى عمر بإجرائه هذا ما بات يعرف بعد هذه الواقعة بقرون باسم «تأثير الهالة the halo effect».

تقول رواية ابن عباس: «قال عمر: ادع لى المهاجرين الأولين، فدعاهم فاستشارهم، وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشام، فاختلفوا، فقال بعضهم: قد خرجت لأمر ولا نرى أن ترجع عنه، وقال بعضهم: معك بقية الناس وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء، فقال عمر: ارتفعوا عنى».

المهاجرون الأول لا تنقصهم الشجاعة، فهم من شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزواته من أول بدر الكبرى، وهم الذين تركوا أموالهم وأهلهم وراء ظهورهم تلبية لنداء الإيمان، إلى جانب مزيد فضلٍ من العلم والدين ميزهم عن غيرهم.... كلا فريقى المهاجرين لم يُعرِ العاطفة اهتماماً وإنما كان اجتهادهم عملى بحت وفق أصول مناهج الإدارة، فتجد فريقا منهم نظر إلى التأثير السلبى على «المدى القصير»، فرأى أن التراجع عن قرار زيارة الشام لا يتفق ونهج الحزم فى الإدارة، بل من شأنه أن ينال من هيبة الدولة لاسيما مع اتساع رقعة الفتوحات الإسلامية، فلن تتحمل فى رأيهم الجماهير أن ترى من أمير المؤمنين وكبار مستشاريه تراجعاً.

أما الفريق الثانى فليس قولهم «معك بقية الناس - يعنى وجوههم وأفضلهم - وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم» خوفاً على أنفسهم من الموت، فهم يعلمون أن هذا الجيل لابد أن يكون مصيره إلى نهاية محتومة شأن كل الناس، لكنهم ذهبوا فى تحليلهم إلى البعد الاستراتيجى «بعيد المدى» للمسألة، فوجدوا أن دخول الشام وقت الطاعون يحمل نسبة خطرٍ كبيرة على قيادات الصف الأول للدولة، فكان رأيهم أن هذه مغامرة سينتج عنها فراغ قيادى هائل يصعب تعويضه مرةً واحدة.

أما الأنصار وهم من آوى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت العسرة ولا ينقصهم فضل العلم والدين أيضاً، فبعدما انفض الاجتماع الأول استدعاهم عمر: «ثم قال: ادع لى الأنصار فدعوتهم فاستشارهم، فسلكوا سبيل المهاجرين، واختلفوا كاختلافهم، فقال: ارتفعوا عنى»... قد ذهبوا إلى نفس المسلك، فأصبحت كفتا الرأيين متساويتين، واشتدت صعوبة الموقف على متخذ القرار، فأمر بالاجتماع الثالث: «ثم قال: ادع لى من كان هاهنا من مشيخة قريش، من مهاجرة الفتح، فدعوتهم فلم يختلف عليه منهم اثنان، فقالوا: نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على هذا الوباء»، ويقصد بمشيخة قريش الذين أسلموا بعد فتح مكة، وهذا المعسكر تحديدا، وإن كان له فضل الصحبة ولا شك، لكن عمر كان يتوسم فيهم خصلتين رئيسيتين عند الاستشارة: السن وكثرة التجارب.. والمفأجأة أنهم لم يختلفوا على رأيين، بل كان جوابهم قولا واحدا حاسما: ضرورة الرجوع.. وللحديث تتمة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق