الاثنين، 3 سبتمبر 2012

رمضان ومعاني الإحسان 2 - الوطن - 26 يوليو 2012

مكمن الروعة هذه المرة أن النفوس بعدما تهيأت لصيام يغفر الذنوب كلها يأتيها التحذير النبوى من صيام لا يؤثر كثيرا فى تهذيب سلوك صاحبه
«الإتقان» كان أول صفحات درس «الإحسان» الذى اتفقنا على مطالعته بعد أن عقدنا معاً العزم منذ المقالة السابقة أن ننتظم فى مدرسة «رمضان».. وكان آخر ما سطرناه إذ ذاك قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه».
والحق أنى لن آتى بجديد فى كل ما سأسرده على مسامعك من أحاديث نبوية فمعظمها متداول مشتهر؛ لكنه قد بهرنى ما فيها من إعداد رفيع المستوى للنفس البشرية لكى يصبح «الإتقان» ملازماً لكل حركاتها بل وسكناتها أثناء يوم الصيام وليلته.. فإذا ما تناولت يوم الصيام من بدايته؛ يصادفك حث النبى صلى الله عليه وسلم على «السحور» كعامل مساعد على «إتقان» الصيام نفسه «تسحروا فإن فى السحور بركة».. فمن بركته أن يعين الصائم على أداء الطاعات المختلفة أثناء النهار من صلاة وقراءة وذكر وتحصيل أسباب رزق وطلب لعلم؛ وإلا فإن شدة الجوع ستقعد الصائم عن الكثير من الواجبات؛ وهذا أمر مشاهد ملموس لمن فاتته أكلة السحر.. ويبلغ الحث على «الإتقان» مبلغه حينما يستحب رسول الله صلى الله عليه وسلم تأخير السحور إلى قبيل الفجر مباشرة ليقلل من المساحة الزمنية للامتناع عن الطعام والشراب التى يكابدها الصائم؛ هذا بالطبع إلى جانب ما فيه من تهيئة تلقائية لأداء صلاة الفجر ومن ثم لاستقبال اليوم الجديد مبكراً.
ولأن البعض قد يظن «الإتقان» رفاهية يسعه أن يتخلى عنها يأتيه حديث «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة فى أن يدع طعامه وشرابه» ليرده إلى صوابه ويشعره بأهمية «الإتقان» وتأثيره.. ومكمن الروعة هذه المرة؛ أن النفوس بعدما تهيأت لصيام يغفر الذنوب كلها؛ واشتاقت لقطف ثمرة يكفى أن الله سبحانه قد أبهمها دلالة على عظم قدرها «إلا الصيام فإنه لى وأنا أجزى به»؛ يأتيها التحذير النبوى من صيام لا يؤثر كثيراً فى تهذيب سلوك صاحبه فلا يردعه عن ارتكاب الشرور والآثام قولاً وعملاً ومن ثم يصبح مجرد تعذيب للنفس بحرمانها من الملذات دون فائدة تذكر.. بل إن السنة النبوية قد سبقت كل نظم التدريب الحديثة فحذرت أثناء تدريبها للنفس البشرية على تحرى «الإتقان» من العوامل الخارجية التى قد تشوه الصورة المثلى للعمل؛ وهو احتمال وارد التكرر بشكل يومى؛ وهذا الاحتياط ظاهر فى حديث «فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إنى صائم» فأرشد صلى الله عليه وسلم إلى الإجراء «الوقائى» الذى يلزم اتخاذه للمحافظة على «إتقان» الصيام؛ مستبقاً ابتكار «دوائر الجودة quality circles» الذى ظهر بعد ذلك بمئات السنين.
ويستمر التدريب النبوى يغرس فى أعماق النفس البشرية معانى «الإتقان» أكثر وأكثر حينما ينهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه عن ختم القرآن فى أقل من أسبوع؛ فعن عبدالله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اقرأ القرآن فى شهر» قلت: إنى أجد قوة... حتى قال «فاقرأه فى سبع ولا تزد على ذلك»... وما ذلك إلا لحرصه على «الإتقان» فى تدبر القرآن وفهمه؛ وهو ما عبر عنه الحديث الآخر: «لا يفقه -أى لا يفهم- من قرأ القرآن فى أقل من ثلاث - يعنى ثلاثة أيام»... وللحديث تتمة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق