الاثنين، 3 سبتمبر 2012

عمر يواجه طلب الاستجواب! - اليوم السابع - 20 أغسطس 2012

ذكرنا أن عمر بن الخطاب قسًَّم مجلسه الاستشارى الطارئ لبحث أزمة طاعون عمواس إلى ثلاث فرق، يستشير كلاً على حدة ليتحاشى "تأثير هالة" كل فريق على الآخر، حتى انتهى به المطاف إلى استشارة الفريق الذى حوى أهل الخبرة والتجربة الطويلة "مشايخ قريش" فلم يختلف عليه منهم اثنان.. كانت المفاجأة أن هذا المعسكر تحديدا قد حسم أمره بضرورة رجوع قيادات الصف الأول كلها إلى المدينة، والتراجع عن القرار الأول بزيارة الشام، فقالوا: "نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على هذا الوباء".

وبذلك لم يعد أمام عمر سوى هذا الخيار تطبيقاً لقواعد الشورى التى تشترط الأغلبية فى إصدار القرار، وهو ما تحقق بجمع من مَالَ إلى هذا القرار من معسكرى المهاجرين الأوائل ثم الأنصار، وأخيرا معسكر مشايخ قريش، وفى ذلك يقول الإمام النووى معلقاً: "وكان رجوع عمر رضى الله عنه لرجحان طرف الرجوع لكثرة القائلين به، وأنه أحوط، ولم يكن مجرد تقليدا لمسلمة الفتح، لأن بعض المهاجرين الأولين وبعض الأنصار أشاروا بالرجوع، وبعضهم بالقدوم عليه، وانضم إلى المشيرين بالرجوع رأى مشيخة قريش، فكثر القائلون به، مع ما لهم من السن والخبرة وكثرة التجارب وسداد الرأى".

فلمَّا أعلن فى الناس قراره وهمَّ بالرجوع، فوجئ عمر وفوجئ الناس بأن رئيس أركان الجيش وأحد أبرز قيادات الدولة فى ذلك الوقت أبوعبيدة بن الجراح يطلب "استجواباً" علنياً لرئيس البلاد إذ يقول: "أفرارا من قدر الله ؟".. "الاستجواب" كأداة من أدوات الرقابة على السلطة التنفيذية مثَّل ركناً من أركان النظام السياسى فى الإسلام، لكنه فى هذه الحالة لم يكن له ما يبرره حقيقةً، لأن عمر أدار جلسات استماع مجلس المستشارين بأقصى درجات الشفافية واطلع الجميع على نتائجها، بل إنه حتى لم يستخدم حقه فى إبداء رأيه الشخصى فضلاً عن رأيه المرجح، واعتمد فقط على أصوات الأغلبية وهو ما عبَّر عنه عمر بمرارةٍ قائلا: "لو أن َّغيرك قالها يا أبا عبيدة"، يلوم عليه ذلك، لما بينهما أولاً من شدة انسجامٍ وتفاهمٍ يصعب معه أن لا يعرف أبوعبيدة لمَّ اتخذ عمر هذا القرار، وثانياً لاطلاع أبى عبيدة على عملية الشورى برمتها، وثالثاً لأن هذا اتهامٌ صريح "استجواب" لم يسبقه "طلب إحاطة" يترك لعمر فرصة سوق مسوغات هذا القرار تحديداً.. غير أن القائد الأعلى استجاب لطلب رئيس الأركان، فطالما أنه اتخذ قراراً، فعليه أن يقدم مسوغات هذا القرار لعامة شعبه ويتحمل ذلك نيابةً عن مستشاريه وقادته باعتباره رأس السلطة التنفيذية، فقال: "نعم، نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كان لك إبل فهبطت واديا له عدوتان، إحداهما مخصبة والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله ؟".. لابد أن يدفع عن نفسه تهمة الجبن، وأن يبرهن على قراره بالأسلوب العلمى المنطقى المقنع، لاحظ أن عمر هنا يتحدث بوصفه قائداً سياسياً يصيب ويخطئ، فنزع عن نفسه كل أحاديث النبى صلى الله عليه وسلم التى زكَّته ورفعت قدره على من سواه، كمثل حديث: "إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه" أو حديث: "لو كان بعدى نبى لكان عمر بن الخطاب" أو غيرهما، فلم يستخدم أياً من ذلك سلطاناً لنهر من استجوبه.. مثال نهمس به فى أذن من يملأ الدنيا ضجيجاً عن مخاوف الدولة الدينية ونقول له لم يعرفها الإسلام يوماً، وأجدنى مدفوعاً أيضاً أن أهمس به فى أذن من يغالى فى حب شخص ينتمى إلى التيار الإسلامى ولا يقبل أن ينتقد محبوبه أحد!

"القياس" كان هو الأسلوب المنطقى التحليلى الذى استخدمه الخليفة الراشد لتبرير موقفه، فلجأ إلى مثالٍ يومى ٍاستقاه من البيئة المحيطة، ليدلل على أن التفكير المنطقى السليم الذى يقود راعى الإبل إلى ترك الأرض المقفرة الجدباء والتوجه بإبله إلى الأرض الخصبة كنوعٍ من الأخذ بأسباب طلب الرزق للبهيمة لا يتم إلا بقدر الله لأنه سبحانه خلق كل شىء بقدر، فكذلك الأمر فى قضيتهم تلك.. وللحديث تتمة.

هناك تعليقان (2):

  1. ما أجمل المسقط عليه وما أروع الإسقاط عليه في حد ذاته ... دائماً تثلج صدري يا أستاذ نادر..تحياتي

    ردحذف