الاثنين، 3 سبتمبر 2012

كيف صنعنا القرار - الأهرام - 29 أبريل 2012


ليس انحيازا لحزب النور‏-‏ وإن كنت بالطبع مدرك أن التزام حياد كامل عند النقد أو الكتابة أمر مستحيل فما يبقي إلا تحري الموضوعية قدر المستطاع‏.
 لكن تجربة الحزب الفريدة في صناعة قرار بحجم اختيار رئيس مصر القادم أجدني مدفوعا إلي نقل محدداتها ونتائجها ليستفاد بها وطنيا.علي نطاق واسع; وأنا مسبوق في ذلك بما بات يعرف عالميا بالمشاركة في المعرفة.
أثناء عملية صناعة القرار; حاولنا قدر استطاعتنا اتباع المنهج العلمي في التفكير والتقيد بالحسابات المنطقية البعيدة عن التأثر السلبي بالعواطف وحدها; لأن العاقل يدرك إلي أي حد يمكن أن تذهب به العاطفة إذا ما اعتمد عليها وحدها في صناعة قراره. فلم يتسرع حزب النور في إعلان دعمه لأي مرشح استجابة لضغط قواعده- مع احترامه طبعا لتلك القواعد التي لولاها لما شكل الحزب أصلا- والذي وصل إلي حد التلويح ثم الإقدام علي استقالات( إعلامية) لم يكذب الإعلام خبرها فطار بها في الآفاق ليمارس بدوره ضغطا آخر علي صناع القرار, فكان الذي عزمنا عليه منذ البداية والتزمناه حتي آخر رمق هو التمهل إلي حين إعلان الأسماء النهائية لمرشحي الرئاسة. الأمر الذي وقانا إلي حد كبير حرجا وقع فيه غيرنا من الأحزاب الضاربة في العراقة, تسرع في دعم مرشح ثم تراجع عنه إلي غيره دون مبرر واضح ثم عاد إلي دعم الأول مجددا بعد انسحاب مدعومه من السباق بشكل مفاجئ.
ونسجا علي منوال حجب العاطفة وثبات الإنفعال وقت صناعة القرار فأزعم أن( النور) قد أظهر ثباتا حقيقيا أمام محاولات تثبيط عزم قياداته وإحراجهم بالترويج لفكرة أن( النور) يسير في ركاب( الإخوان المسلمين) علي غير بصيرة; ونشطت هذه المحاولات في الآونة الأخيرة تحديدا لزرع بذور الإحن في قلوبنا وقلوب إخواننا; فكان ردنا الواضح أن إخواننا إن وافق اجتهادهم رؤيتنا فلا جرم نتبعهم لأن الإصرار علي المخالفة فقط لإظهار التميز والحضور خصلة من خصال العصبية الجاهلية; أما إن اختلفت الرؤي فلا حرج علينا أن يختار كل منا ما اطمأن إليه ويعذر بعضنا بعضا.
أما الحرص علي جمع الإسلاميين خلف مرشح واحد فلقد مثل عاملا محوريا في التأثير علي قرارنا لإدراكنا خطورة أن يتحمل أي فصيل إسلامي تبعات قرار اختيار رئيس لأكبر دولة إسلامية و أزعم أننا صبرنا علي ذلك حتي النهاية. ولعلها أن تكون تجربة مفيدة علي طريق وحدة حقيقية وقت اتخاذ القرارات المصيرية, أبي الله أن تتحقق في الظرف الراهن لحكمة لا يعلمها إلا هو سبحانه لكنها تظل مرشحة بقوة للحدوث في المستقبل المنظور. كذلك الحرص علي استطلاع آراء أغلب التيارات الوطنية, التي وإن كنا نختلف معها في الطرح بحكم تباين مرجعياتنا إلا أن وطنا يستوعب الجميع وثورة ما فرقت بين تيار وآخر قد حتما علينا تغليب النظرة الوطنية الأممية علي النظرة الحزبية الضيقة فلم نعبأ كثيرا بأن هذا المرشح أو ذاك سيكون الأقرب إلينا فكريا في الوقت الذي قد يتفوق عليه غيره بالكفاءة ولو نسبيا; لاسيما و أننا نعي جيدا الفارق الشاسع بين اختيار رئيس هو أقرب ما يكون إلي مدير تنفيذي منه إلي خليفة للمسلمين; وهي تفصيلة جوهرية غابت عن الكثيرين.
التقينا بمرشحي الرئاسة كل علي حدة أكثر من مرة للوصول إلي رأي متكامل عن كل مرشح بعيدا عن أي تصورات مسبقة. وكانت أهم محاور اللقاءات تركز علي رؤية المرشح الحقيقية للخروج بمصر من رحم الأزمة الحالية ولمدة أربع سنوات مقبلة فحسب بعيدا عن برامج التوك شو التي تحوي كثيرا من الإستعراض الإعلامي الذي لا يعبر بصدق عن رؤية متكاملة راشدة.
فهم كل مرشح لصلاحيات الرئيس في دولة ما بعد الثورة كان أحد أهم العناصر التي بني عليها القرار. إضافة إلي طبيعة الفريق الرئاسي الذي يعتمد عليه المرشح.. وفريق رئاسي في حسنا لا يعني فريقا لإدارة حملة دعائية إنتخابية; وإنما فريق حقيقي يعتمد عليه الرئيس عند اتخاذ قراره بعد ممارسة شورية حقيقية.
هذا بالإضافة إلي تقييم شخصية المرشح من الجانب النفسي; بقياس ثباته الإنفعالي وقدرته علي مواجهة الضغوط والحلم والصبر وقوة الاقناع والتاثير والكاريزما إلي آخر قائمة طويلة عكف خبراؤنا النفسيون علي قياسها. وأخيرا كان الإنتقال من صناعة القرار إلي اتخاذه أنموذجا يحتذي في الممارسة الشورية تمثل في عرض خلاصة ما تم التوصل إليه من دراسة مستفيضة علي طبقة أهل الحل والعقد الموسعة( الجمعية العمومية) المتمثلة في هيئة الحزب العليا وهيئته الرلمانية ومسئولي المحافظات للتصويت الحر المباشر علي شخص الرئيس الذي يدعمه الحزب.
يا لحزب النور

الغلو شرٌ كله - اليوم السابع - 21 أبريل 2012

الغلو ممقوت بكل ألوانه، سواءٌ فى ذلك أكان غلواً فى شخصٍ أو فكرة، ذلك أنه يورد صاحبه المهالك من أقصر طريق، فقد يعميه غلوه فى شخصٍ أو تعصبه لفكرةٍ عن رؤية الحق فى مواطن كثيرة لمجرد أنه أتى على غير هواه أو من خلاف طريقه.

 ولأن أكثر صنوف الغلو خطراً ذلكم المتعلق بالأشخاص فقد حرص الإسلام على نبذ تقديس الأشخاص أيما حرص فربى أبناءه تربية الأحرار من اليوم الأول، وإن شئت فى ذلك فصل الخطاب فتأمل  كيف حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغلو فى شخصه الكريم بقوله: «لا تطرونى – الإطراء مبالغة الحد فى المدح والثناء – كما أطرت النصارى المسيح ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله»، فماذا بعد الحق إلا الضلال؟

تأمل كيف اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الرأى مراراً  وبعضهم كان أعلى فى المكانة والفضل من مخالفيه بكثير فلم يحملهم ذلك على اتهام بعضهم بعضاً بالتهم التى يتساهل فيها إخواننا اليوم تساهلاً عجيباً وما يدرون أنها تحلق الدين حلقاً.
   
تعلمون كيف اختلف الصحابة فى تفسير أمره صلى الله عليه وسلم «لا يصلين أحدكم العصر إلا فى بنى قريظة» فكان منهم من صلى فى بنى قريظة حتى بعد فوات الوقت وكان منهم من صلى العصر فى وقته وفهم أن المراد من الأمر هو حثهم على الإسراع فقط، فلم  يثرب فريقٌ منهم على من خالفه اجتهاده أو حاول حمله قسراً على ما فهم واستوعب.

ويوم حادثة الإفك تأخر الوحى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم  امتحاناً من ربه وتمحيصاً لصفوف المؤمنين فاستشار صلى الله عليه وسلم اثنين من خاصة أصحابه فى شأن فراقه لعائشة رضى الله عنها، فأما أسامة بن زيدٍ، فقال: يا رسول الله، هم أهلك ولا نعلم إلا خيرا، وأما على بن أبى طالب، فقال لم يضيق الله عز وجل عليك، والنساء سواها كثير، وإن تسأل الجارية تصدقك، وعلى بقوله هذا لم يشر عليه بترك عائشة لشىء فيها وإنما كما يوضح ابن حجر: «وهذا الكلام الذى قاله على حمله عليه ترجيح جانب النبى صلى الله عليه وسلم لما رأى عنده من القلق والغم بسبب القول الذى قيل، وكان صلى الله عليه وسلم شديد الغيرة فرأى علىّ أنه إذا فارقها سكن ما عنده من القلق بسببها إلى أن يتحقق براءتها فيمكن رجعتها».

وترى خليفة المسلمين أبابكر  فى أول أيام حكمه قد أحاط به  قطاعٌ عريضٌ من الصحابة يحاولون إثناءه عن المضى قدماً فى قراره بإرسال أحد عشر جيشاً دفعة ًواحدة  فما يزيدونه غير إصرار، وكان موطن معارضتهم الرئيسية فى قضيتين، قضية إنفاذ بعث أسامة التى كانت مركبة فى حقيقة الأمر من مادتين أولاهما الاعتراض على مقارعة الروم فى توقيت حرجٍ كانت الروم فيه فى أوج قوتها وثانيها سن أسامة نفسه الذى اعترض عليه كثيرون، والقضية الثانية فى قتال مانعى الزكاة على ماهو معروفٌ مشتهر.

حتى الرأى فى الرجال وتقييمهم، قد اختلفت فيه تقديراتهم وكلهم مجتهدٌ مأجور، فقد اختلف  مثلاً رأى عمر وأبى بكر فى شأن خالد،  ولهذا كان أبوبكر الصديق رضى الله عنه يؤثر استنابة خالد، وكان عمر بن الخطاب رضى الله عنه يؤثر عزل خالد، واستنابة أبى عبيدة بن الجراح رضى الله عنه، لأن خالدا كان شديدا كعمر بن الخطاب، وأبا عبيدة كان ليناً كأبى بكر، وكان الأصلح لكل منهما أن يولى من ولاه، ليكون أمره معتدلاً والكلام هنا لابن تيمية فى السياسة الشرعية.

وعزل عمر «سعد بن أبى وقاص» على إثر اعتراض أهل الكوفة على شخصه، فما عزله إلا  درءاً للفتنة؛ قائلا فى شأن ذلك: «فإنى لم أعزله عن عجز ولا خيانة».. وهو مع ذلك قد جعله ضمن مجلس الستة الذى ائتمنه على خليفة المسلمين من بعده.

واختلف المهاجرون والأنصار على فريقين يوم علم عمر أن الطاعون قد ضرب دمشق وهو إذ ذاك فى طريقه إلى الشام، فدعاهم ليستشيرهم؛ فاختلفوا فقال بعضهم‏:‏ قد خرجت لأمر ولا نرى أن ترجع عنه‏؛ وقال بعضهم‏:‏ معك بقية الناس وأصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء، فكان  آخر أمره آن عزم على الرجوع فلم يدخل دمشق.. وقتها عارضه أبوعبيدة بقوله: أفراراً من قدر الله؟ ورغم ما فيها من اتهام صريح فإن أحداً لم يراجع أبا عبيدة فى ما قاله، وتقبلها منه عمر بقبولٍ حسن، قائلاً: نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله.

ومن ذلك رفض أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضى الله عنه قتال محاصريه، رغم أن كثيرا من الصحابة كانوا على خلاف رأيه فى وجوب الدفاع عنه حتى الموت، مما اضطره أن يقول: أعزم على كل من رأى أن لى عليه سمعا وطاعة، إلا كف يده وسلاحه، فإن أفضلكم عندى عناء من كف يده وسلاحه. وقد كانت داره يومئذ غاصة بسبعمائة، لو يدعهم لضربوا محاصريه حتى يخرجوهم من أقطارها، منهم: ابن عمر والحسن بن على وعبدالله بن الزبير كما يحكى ابن سيرين.

الفن وحرية الإبداع - اليوم السابع - 31 مارس 2012

على ذكر الفن وحرية الإبداع، أتعجب كثيراً كلما دعيت إلى ندوةٍ أُسأل فيها: هل الفن حرام؟
شريعةٌ قال مبلغها، صلى الله عليه وسلم: «الله جميل يحب الجمال» لا يمكن أبداً أن تحرم النفوس البشرية من تذوق الإبداع الفنى، وإنما هى فقط تهذب الحاسة الفنية، وتيمم وجهها شطر السمو عن نوازع الغى والفساد .. وإلا فـ«ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم»؟

والمتأمل آيات الجمال المعمارى التى خلفها المسلمون وراءهم فى الأندلس والعراق ومصر والشام، يدرك أن النفوس التى رباها القرآن، وصاغها الحديث النبوى ليست قادرة على تذوق الإبداع الفنى فحسب، وإنما تستطيع أن تبز أقرانها ممن لم ينالوا ما نالت من حظٍ عظيم، بل تفوقهم عبقرية وتفردا.

وإذا كانت الحكمة ضالة المؤمن، حيث وجدها فهو أحق بها، وفى الحديث «وإن من الشعر لحكمة» سواء خرج من جوف مؤمنٍ أو كافر، ورسول الله، صلى الله عليه وسلم، كان إذا سمع بيت «لبيد بن ربيعة» الشهير «ألا كل شىء ما خلا الله باطل» يقول صدق، وإذا قال «وكل نعيم لا محالة زائل» يقول النبى صلى الله عليه وسلم: كذب، إلا نعيم الجنة.. لا يزول .. فعلى ذلك يقبل المسلم الحق من كل من جاء به، ونستفيد مما يحويه أدب غير المسلمين روايةً كان أو شعراً مادام المشترك بيننا البحث عن حكمة أو تهذيب نفس أو حكاية تجربة إنسانية مفيدة، وإلا لما وجدنا من ربنا سبحانه وتعالى تأكيداً على صحة الحكمة البليغة التى لقنتها «بلقيس» لقادة جيشها وأركان دولتها، وكانت حينئذ على شرك بالله واضح، فما أقرها القرآن على باطلها، ولكنه لم يُغفل أيضاً الحق الذى نطقت به «إن الملوك إذا دخلوا قريةً أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة» بتعقيب الله سبحانه «وكذلك يفعلون».

فليست مسألة تمييز الغث من السمين إذن هى محور القضية المثارة الآن، إنما ما يدفع به البعض من أنه حينما ننتقد روايةً أدبيةً لما حوته من مظاهر انحراف عن النهج الإسلامى أياً كانت درجة تميز صاحبها من ناحية الحرفة أو الصناعة الفنية، فإننا فى زعم هؤلاء نتغافل عن حقيقة مجتمع مصرى حوى نماذج وأنماط الشخصيات التى ترتكب من الموبقات ما لا يختلف على حرمته اثنان، فبالتالى لمَ الاعتراض؟

نقول: إن المشكلة لا تتركز فى إبراز هذه النماذج وتسليط الضوء عليها واعتبار مظاهر حياتها العابثة هى محور الرواية الرئيس، وإنما السياق القصصى هو العائق الأول فى قبول هذه الرواية من ردها، بمعنى أن القرآن الذى هذب النفوس بأحسن القصص - سواء كان ذلك متعلقا بنبى الله يوسف أو غيره - من تأمل فى سياق قصصه على اختلافها، نعم سيجد صورةً متكاملة الأركان للمجتمع بما كان عليه المشركون من تعاطٍ للخمر واستهزاءٍ بالمرسلين، وتكذيب بالبعث، وغير ذلك كثير، بل قد اهتم القرآن بسرد شبهات مناوئى الرسل ورافضى الحق بحذافيرها، لكن سياق قصصه كان يوجه بوصلة أهل التدبر للتفكير فى عاقبة ومآل هذه المخالفات البشرية بشكل لا يمكن أن يثير أفكارا مريضة أو يتسبب فى فساد فطرة.

السبت، 31 مارس 2012

بوضوح! السبت، 10 مارس 2012

مخطئ من يتصور أن الانتساب إلى التيار الإسلامى يعصم صاحبه من الزلل أو يضفى عليه هالة ً من القداسة، وأعظم منه خطأ ًمن يتربص الدوائر بالمنهج الإسلامى نفسه لينقض عليه فى شراسةٍ إذا ما ندت من بعض منتسبيه هفوةٌ أو زلة.

لأن الإسلام الذى هو دينٌ ومنهاج حياة، دائماً ما يرسى مبدأ أن الحق لا يعرف بالرجال، وإنما يُعرف الرجال باتباعهم الحق، لذا فاعرف الحق تعرف أهله، لأن الكل يأخذ منه ويرد عليه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لتظل الشريعة دائماً بمعزلٍ آن تُخذل لأن فلاناً عصى أو علانا خالف النهج، فإن من يكسب إثماً إنما يكسبه على نفسه، لن يضر شرع الله شيئاً، فالله متم نوره وإن تخاذلنا أو أقعدتنا الذنوب.

وتتجلى صورة تفريق القرآن بين المنهج وبين أتباعه، فى لومه لكل من أخطأ أو تجاوز منهم لوماً يصل إلى حد التقريع المباشر كما فى قصة «بنى أُبيرق» من الأنصار إذ سرق أخٌ لهم يُدعى «طُعمة» درعاً «لقتادة بن النعمان» وخبأ الدرع فى جوال «دقيق» سُرعان ما ثُقب لأجل حظه العاثر تاركاً أثراً على خطوات «طعمة» ستجعل الشبهات تحوم حوله، لاسيما وقد لاقاه «رفاعة» عمِ «قتادة» على هذه الحال وهو قافلٌ من بيت «قتادة».
المهم أن صاحبنا هذا عمد إلى بيت يهودى يُدعى «زيد» استودعه جوال الدقيق متحججاً بكونه مثقوبا، على أن يعود ليأخذه مجدداً، وتنفس بعد هذه الحركة الخسيسة الصعداء أن تخلص من الدرع المسروقة وألصقها برقبة اليهودى.

فلما اكتشفت السرقة هُرع «طعمة» إلى قومه فحكى لهم خبره وناشدهم الرحم إلا ناصروه على باطله، وأوعز إليهم أن يتهموا اليهودى لأن الدرع موجودةٌ عنده، فأجمعوا أمرهم على إلصاق التهمة بـ«زيد»، ولتساعدهم على ذلك سيرة يهود غير السوية فى المدينة وعداوتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم التى لا تحتاج إلى برهان، فظل القوم بالنبى صلى الله عليه وسلم يقنعونه أن صاحبهم برىء، وأنه يرى أن الذى سرق الدرع «زيد» اليهودى، قالوا قد أحطنا بذلك علما، فاعذر صاحبنا على رؤوس الناس وجادل عنه، فإنه إن لم يعصمه الله بك يهلك، وكيف يُتهم أهل أُبيرق وهم بيت إسلامٍ وصلاح ويُترك اليهودى–رغم وجود شهودٍ معه على أن طعمة هو الذى استودعه الجوال وما يدرى اليهودى ما فيه، فلما همَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبرئة «طعمة» أنزل الله من فوق سبع سماوات -لأنه عدلٌ قد حرم الظلم على نفسه- عشر آياتٍ بتمامها تبرئ اليهودى وتدين أهل أُبيرق كلهم مفتتحةٌ بقوله تعالى «إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا» ســورة النســاء «104–115»
شريعةٌ لا تعرف محاباة ً لأحد، ولا تنصر ظالماً لمجرد كونه مسلماً ولو حتى كان من السابقين الأولين، فقد حكم الله أنه «لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً» أى أن الأمنيات وحدها لا تكفى لتعذر صاحبها بين يدى من لا تخفى عليه خافيةٌ فى الأرض ولا فى السماء، بل يسرى قانون الثواب والعقاب على الجميع.

سيادة وطن السبت، 3 مارس

صحيح ٌ أن مشهد خروج المتهمين الأمريكيين من مطار القاهرة مثل صورة ً مزرية لضياع سيادة الوطن صدمت مشاعر كل المصريين، لكنى أرى أن تحليل المشهد يتجاوز بكثير الحديث عن جرحٍ غائرٍ للكرامة الوطنية أو طعنة نافذة لأحلام شعبٍ ضاق ذرعاً بالذل والهوان ..يتجاوز ذلك إلى الحديث عن أزمةٍ حقيقية نعيشها.. أزمة فى صناعة القرار السياسى.

وأقول «قرارٌ سياسى» لأن توقيف أى أجنبى بغض النظر عن جنسيته للتحقيق معه، إذا ما خالف قوانين البلاد بشكلٍ واضحٍ صريح، لابد أن يؤثر على العلاقة مع بلاده، ويتباين التأثير تبعاً لحجم الدولة، فكيف إذا ما كانت الدولة بحجم الولايات المتحدة؟ فالمفترض أن يكون صانع القرار – وهو هنا المجلس العسكرى – على دراية بتبعات هذا القرار، إذ أنه بلا شك يتفهم موازين القوى الدولية ويتفهم أن تحديه السافر لواشنطن يلزم منه أن يكون مستعداً للمواجهة، لاسيما فى هذا التوقيت الحرج الذى يجاهد فيه المجلس لحفظ ماء وجهه أمام شعبه، فلماذا أقدم من البداية على اختبار القوة؟

كان بوسعه أن ينزل إلى ساحة البطولة من أيسر طريق، لو أصدر قراراً بالقبض على المتهمين ومن ثم ترحيلهم بوصفهم أشخاصاً «غير مرغوبٍ فيهم»، إذن لأنقضت المواجهة من الجولة الأولى ولحاز المجلس العسكرى قصب السبق أمام شعبه والعالم أجمع ولأثبت سيادةً وطنيةً غير منقوصة، ولفتَّ ذلك فى عضد الإدارة الأمريكية ولسببَّ لها إحراجاً بالغاً، لكنه سينتهى بها إلى الرد بتصريحات نارية نعلم أنها لن تحدث فارق كبير، طالما قد استعادت رجالها ولو بشكلٍ مهين، ولكفى الله المؤمنين القتال من البداية.

أما وقد حسمت أمرك واتخذت قرارك «السياسى» بنقل المواجهة إلى ساحة القضاء على أرضك؛ فلا بد أنك قد درست ردود الأفعال وقدرت لها قدرها وحللت المعطيات جيداً قبل ما تطرح قرارك للتنفيذ، وتعلم أن احتمال الإدانة قائمٌ بلا شك، فأنت مستعدٌ بالتالى لتطبيق عقوبة ما على الأمريكيين، وإلا فإن أحكام القضاء لا يمكن أن تقبل مساومة أو مفاوضة، فلتتحمل تبعات قرارك إلى النهاية بشجاعة إذن وسيقف الشعب المصرى كله من خلفك كما أوضحنا من قبل.. لكنك فجأة وبلا مقدمات قررت الانسحاب من المواجهة، فأضحينا كالمنبَّت لا ظهراً أبقى ولا أرضاً قطع، فأى ُ قرارٍ هذا؟

قرار أراق ماء وجه شعبٍ بأسره، وهز ثقته بشدة فى السلطة القضائية بعدما رأى إلى أى حدٍ تُكبَّل إرادتها، ولعل السؤال الأخطر الذى يبرز هنا، هو إذا كنا قد اشتممنا رائحة تحريكٍ سياسى لملف قضيةٍ كهذه، فكيف تطمئن قلوبنا لسير المحاكمات مع رموز نظامٍ سابق عُينت الهيئات القضائية تحت سمعه وبصره؟

أما واشنطون فمصرةٌ على ضرب الذكر صفحاً عن دروس التاريخ، تتحدث عن القانون فى كل سهلٍ ووادى، فإذا ما طُبق القانون بساحتها أقامت الدنيا ولم تقعدها، ولعمر الله لهذا أحد مظاهر الغطرسة التى أهلكت أمماً قبلها كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد.

بشار لا يفهم! الإثنين، 20 فبراير 2012

أكَّد الله سبحانه فى أكثر من موضع فى كتابه أنه لا يهدى القوم الظالمين؛ بل يختم على قلوبهم؛ ويحرمهم تسديده وتوفيقه؛ فالواحد منهم يكون على أشد حالات الفساد والانحراف، ومع ذلك إذا قيل لهم لا تفسدوا فى الأرض قالوا إنما نحن مصلحون؛ ومن الناس من فاق ظلمه كل الحدود فأثمر ظلاما ًلف قلبه وطمس بصيرته؛ فماعادت تؤثر فيه موعظة ولا تنفعه عبرة؛ فيزداد غياً فوق الغى كلما كثرت النذر من بين يديه ومن خلفه. أما من استقامت سيرته وصحت فطرته فيكفيه النظر فى حال مساكن الذين ظلموا أنفسهم ليتبين له كيف فعل الله بكل جبارٍ عنيد؛ وهو ما لخصّه رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: (والسعيد من وُعظ بغيره). تنظيرٌ وفق قواعد الشرع سيعينك كثيراً على توصيف حالة بشار الأسد وهو يبطش بقومه وينكل بهم غير مكترثٍ بأمثلة طغاة فاقوه شراً وحقداً تهاوت عروشهم عن يمينه وشماله؛ فهم بين مقتولٍ ومحصورٍ ومطارد، فتظل عامة يومك وآنت تطالع شاشات التلفاز تنقل صور المذابح البشعة من سوريا، تتعجب كيف لا يفهم بشار أن نهايته لن تختلف كثيراً عن نهايات من سبقوه وكانوا أشد منه قوة ً وأكثر جمعاً؟.

وحده بشار الأسد دون العالم أجمع لا يفهم أن الموت يزحف إليه بخطى حثيثة وأن سقوط نظامه أصبح مسألة وقتٍ ليس أكثر؛ فلاتزال أوهام استعادته لزمام الأمور وعودة سوريا إلى قبضته الحديدية تلعب برأسه كما تلعب الخمر برأس سكيرٍ.. يحسب أن (الفيتو) الصينى الروسى مع مساندة إيران غير المشروطة قد مثلا ركناً شديداً يمكنه الالتجاء إليه؛ فاجترأ أكثر وأكثر على ذبح شعبه الأعزل من الوريد إلى الوريد؛ فى إشارة أخرى على انعدام الفهم؛ إذ أن حجم رقعة الغضب الأممى الإسلامى والعربى سيتزايد فى المقابل على نحوٍ يؤازر الشعب السورى ويتفاعل مع قضيته كرد فعلٍ طبيعى لمؤامرة دولية متعددة الأطراف..

فالغريب أن لُحمة هذه الأمة لا تظهر إلا وقت اشتداد الكرب وارتفاع وتيرة الظلم؛ فمثلها كمثل جسدٍ واحد إذا اشتكى منه عضو تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمى؛ وهو أيضاً ما يستعصى على أمثال بشار فهمه.

وعما قليل ليرين بشار وعصابته أن نزيف الدم السورى المتصاعد هو فى حقيقته دماءٌ تسرى فى عروق الثورة فيشتد ساعدها وتزداد قبضتها إحكاماً على سيف ٍسيغمد فى سويداء قلوب زمرته حتماً لا ريب؛ فالقاعدة الشهيرة أن من سل سيف البغى قُتل به؛ وعلى الباغى تدور الدوائر.

رسالة خاصة إلى واشنطن: اختباركم لقياس رد فعل الشارع المصرى بعد الثورة ليس جديداً؛ وإن كان أتى هذه المرة فجا ًمتغطرساً كعادتكم حينما تتقمصون دور راعى الأبقار؛ إلا أن إلقاء الشعب المصرى القفاز فى وجوهكم مثَّل نتيجة أزعم أنها فاقت توقعاتكم بكثير؛ لذا نرجو أن تكونوا قد استوعبتم تصميم الشعب المصرى على كسر كل قيدٍ حال بينه وبين كرامته؛ فتعيدوا ترتيب أوراقكم للمرحلة المقبلة بتفهمٍ أكبر لوضع مصر بعد الثورة.

إدارة التغيير

يمكننا القول بأن ثورة يناير مثلت أقصى درجات التعبير عن «إرادة التغيير»، فبعد ما بلغ السيل الزبى وطاش صواب أكثر الناس حلما من جراء تراكم الظلم والقهر، صار التغيير فى ضمائر الكثيرين ضرورة حتمية، ينتظرون فقط اللحظة المواتية للإعلان عنه، ثم لما تمَّ المراد بنزع رأس الطغيان من كرسيه، تبقى أمامنا أن نتحول بالمسار الثورى من مجرد إرادة إلى إدارة ترسم لنا خارطة طريق نعبر بها الفجوة بين الواقع المتردى والمستقبل المنشود، وهو ما يطلق عليه علماء الإدارة اسم «إدارة التغيير».
وإدارة التغيير هى عملية شديدة التنظيم تحتاج إلى خطة زمنية وقرارات مدروسة وصبر على النتائج وتفهم لكلفة القرارات، هذا لو كنا ننشد تغييراً جذرياً يتناول أصل المشاكل المزمنة بالتحليل، ومن ثم إيجاد الحلول على المدى القريب والبعيد، أما التغييرالظاهرى فضرب من العبث لن يخرج بنا من التيه أبداً.
الدعوة إلى العصيان المدنى مثلاً نوع من ذلك العبث تصل إلى حد الممارسات الصبيانية، إذ يفتقد الداعون إليه التمييز بين وقت يصلح للتعبير عن إرادة التغيير ووقت آخر تتوجه فيه الجهود إلى إدارة التغيير.. فالحق أن مصر الآن فى منتصف الطريق بين إرادة التغيير وإدارته، واستطاعت أن تمسك بطرف خيط حينما خرج مجلس الشعب للنور ويليه على نفس المسار مجلس الشورى وانتهاءً بانتخابات الرئاسة، وكلها خطوات المنصف العاقل يمكنه أن يرى فيها بكل وضوح أن ثمة تغييراً حقيقياً قد ظفرنا به عقب عامٍ كامل من ثورتنا اللاهبة، ومهما بدا طفيفاً ذلكم التغيير فإن عزائم الرجال مضافة إلى تخطيط بعيد المدى وفهمٍ عميق للواقع ومن قبل ذلك كله استعانة حقيقية بالمولى عز وجل ستأخذ هذا التغيير إلى تحقيق النتائج المرجوة.
وليست هذه الممارسات بأخوف ما أخافه الآن، إنما الخطر الحقيقى يكمن فى اشتداد وطأة «الفوضويين» على كل ما يحمل رائحة التعقل ولو من مكانٍ بعيد، والاستهزاء بكل من تكلم عن الاستقرار والمؤسساتية ونعته بالجبن والتخاذل عن نصرة مزعومة للثورة، ومن ثم الهزيمة النفسية التى صرت أرى بعض ملامحها مرتسمة على وجوه العقلاء بغير مبررٍ، اللهم إلا خوفهم من الصوت العالى.
نعم يتفق العقلاءُ كلهم على حتمية خروج المجلس العسكرى من المشهد السياسى بأسرع صورةٍ ممكنة، لأسبابٍ عدة على رأسها هاجس تكرار مأساة العام ١٩٥٤ بكل مرارتها، لكن العقلاء أيضاً يعلمون أن هذا الخروج إذا لم يأتِ بالصورة المنتظمة التدريجية التى اتفقنا على وصفها بإدارة التغيير فإن النتائج العكسية هى التى تنتظرنا بلا ريب.. وأعلم أن كارثة بورسعيد ومن قبلها مذابح أخرى قد أججت مشاعرنا وألهبت نفوسنا إلى أقصى حد، لكن بديهيات إدارة التغيير التى تكلمنا عنها تشير إلى ضرورة اتخاذ القرارت بمعزلٍ تامٍ عن تأثير العاطفة أياً كانت خطورة الموقف ودقته. وبالمناسبة حتى الثورة نفسها لو خضعت للمقاييس العاطفية فقط ونحّت العقل جانباً لوسع مبارك أن يغتال أحلامها من اليوم الأول وإلا فكلنا يذكر كيف حاول استدرار عطف عامة الشعب عليه ببيانٍ تلو آخر، فى الوقت الذى كان صوت العقل يهتف بنا أن نستكمل الطريق إلى النهاية لأن الطاغية لو تمكن من التقاط أنفاسه فما كان ليرحم أحداً.